ممّا رآقَ لِي

آخر وجبة اخبارية تناولتها,كانت في بداية يوليو (تموز) الماضي. كنت أزور صديقتي الغالية لطيفه,في فندقها في بيروت,لأودّعها قبل سفري الى فرنسا ,فاستبقتني للغذاء في جناحها,و عرضت علي ارتداء احدى بيجاماتها, كي نستمتع بجلستنا, و بطبق "الكسكسي" الذي اعتاد الشيف أن يعدّه خصيصا لها.

و رحنا سعيدتين بخلوتنا نتجاذب أطراف الحديث حول همومنا النسائية,و نتناقش في بعض ما كانت تطالعه من كتب سياسية,موجودة الى جوار طاولة سريرها,و تغني أغنية من التراث التونسي توقظ فينا المواجع:

عملت الخير في للي ما يحضه

و القصدير ما يرجعش فضة

عمري راح في الغربة تعدى

يا الغالي بزايد ما ننساك

لو انموت و يمدّوا اللحايد ... ما ننساك

و صادف أن هاتفني الأسير محمود الصفدي من سجن عسقلان في "فلسطين" فأهديته مفاجأة صوتها

وفرحت لطيفه بقدر فرحته, و طلبت منه أن يبلغ رفاقه الأسرى حبها و تعاطفها.

و عندما انتهت المكالمة كنا مازلنا مندفعتين في الحديث عن محنة عروبتنا. و بسبب احباطنا فتحنا التلفزيون عساه يفتح شهيتنا خارج نشرات الأخبار,فقد كانت الساعة الثالثة ظهرا و اذا بنا من دون مقدمات أمام رجل كأنه صدام ..بدت عليه علامات الشيخوخة و الوهن يساق مكبلا بالسلاسل ليمثل أمام محكمة مختصرة في قاض شاب.

 لم نسمع صوت صدام الذي حجب عنا و لكن كان يكفي ما رأيناه لنشعر بأن الأصفاد كانت في أيدينا و قيوده في أرجلنا و بأنهم جاؤوا به لاذلال صورة "بطل التحرير القومي" و الحاكم الذي غدا "رمز الشرف العربي".

باهانته ما كانوا ينالون منه بل ينالون من أوهامنا الماضية و أحلامنا المقبلة بانجاب قائد عربي يكون منتصبا كسيف,نقيا كزئبق,غيورا على ماء وجوهنا.

أنا التي لست من يتامى صدام, و لا عهد لي بعراق كان يحكمه بنياشينه و صولجانه و تماثيله, و بمسدسه الذهبي و سيجاره الكوبي, و بذلته متقاطعة الأزرار.منذ سقوط بغداد كلما ظهر صدام على  الشاشة , مشوش الهندام ,بائس المظهر,أشعث الشعر ,أشيب أغلقت التلفزيون و دخلت في اضراب مفتوح عن الأخبار لأسابيع عدّه, خشية أن أقع على صورة نفسي و أنا أراه على الشاشة او صور أبي أو حبيبي.

...

يومها حرمنا صدام أنا و لطيفة من تناول طبق "الكسكسي" فقد غصت حنجرتانا بدمع الاهانة.

من كتاب قلوبهم معنا و قنابلهم علينا ...أحلام مستغانمي